الآية رقم (259)
{ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }
تقدم قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} وهو في قوة قوله هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ولهذا عطف عليه بقوله: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها} اختلفوا في هذا المار من هو؟ فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزيز، ورواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا القول هو المشهور، وقيل: اسمه حزقيل بن بوار وقال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل، وأما القرية فالمشهور أنها "بيت المقدس"مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها {وهي خاوية} أي ليس فيها أحد من قولهم خوت الدار تخوي خوياً.
وقوله تعالى: {على عروشها} أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال: {أنَّى يحي هذه اللّه بعد موتها}؟ وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كنت عليه. قال الله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه}. قال: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنوا إسرائيل إليها. فلما بعثه الله عزّ وجلّ بعد موته، كان أول شيء أحيا اللّه فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه، كيف يحيي بدنه. فلما استقل سوياً {قال} الله له، أي بواسطة الملك: {كم لبثت؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم}. قال: وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه اللّه في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: {أو بعض يوم. قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}، وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص: {وانظر إلى حمارك} أي كيف يحييه الله عزّ وجلّ وأنت تنظر، {ولنجعلك آية للناس} أي دليلاً على المعاد {ونظر إلى العظام كيف ننشزها} أي نرفعها فيركب بعضها على بعض، وقرىء {ننشرها} أي نحييها قاله مجاهد، {ثم نكسوها لحماً}.
قال السدي: تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها، ثم كساها اللّه لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً، وبعث اللّه ملكاً فنفخ في منخري الحمار فنهق بإذن الله عز وجلّ، وذلك كله بمرأى من العزير. فعند ذلك لما تبيّن له هذا كله: {قال أعلم أن اللّه على كل شيء قدير} أي أنا أعلم بهذا، وقد رأيته عياناً فأنا أعلم أهل زماني بذلك، وقرأ آخرون: )قال إعْلَم( على أنه أمر له بالعلم. ">الآية رقم (260)">
الآية رقم (260)
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم }
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسباباً، منها أنه لما قال لنمرود: {ربي الذي يحيي ويميت} أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال: {رب أرني كيف تحيي الموتى! قال أولم تؤمن! قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فأما الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي) "أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري"فليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف.
وقوله تعالى: {قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك} اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال: أخذ وزاً ورألاً وهو فرخ النعام وديكاً وطاووساً، وقال مجاهد: كانت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً، وقوله: {فصرهن إليك} أي وقطعهن. وعن ابن عباس {فصرهن إليك} أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءأً، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم أمره اللّه عزّ وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره اللّه عزّ وجلّ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين، سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها.
ولهذا قال: {واعلم أن اللّه عزيز حكيم} أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع من شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ">الآية رقم (261)">
الآية رقم (261)
{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }
هذا مثل ضربه اللّه تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه} يعني في طاعة الله، وقال مكحول يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل، وإعداد السلاح وغير ذلك، وقال ابن عباس: الجهاد والحج يضعَّف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال تعالى: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}، وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها اللّه عزّ وجلّ لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الارض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف.
كما روي الإمام أحمد عن عياض بن غطيف قال: دخلنا على ابي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه، وأمرأته قاعدة عند رأسه قلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: واللّه لقد بات بأجر، قال أبو عبيدة: ما بت بأجر، وكان مقبلاً بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه، وقال ألا تسألوني عما قلت! قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (من أنفق نفقة فاضلة في سبيل اللّه فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة مالم يخرقها، ومن ابتلاه اللّه عزّ وجلّ ببلاء في جسده فهو له حِطَّة) أي كفارة لذنوبه.
حديث آخر: عن ابن مسعود أن رجلاُ تصدق بناقة مخطومة في سبيل اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة) "رواه أحمد وأخرجه مسلم بلفظ: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: يا رسول اللّه هذه في سبيل اللّه، فقال: (لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة)".حديث آخر: عن ابن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف خلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ."رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود".
حديث آخر: عن ابن عمر لما نزلت هذه الآية {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (رب زد أمتي)، قال: فأنزل اللّه: {من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً} قال: (رب زد أمتي)، فقال، فأنزل اللّه: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "أخرجه ابن مردويه ورواه أبو حاتم وابن حبان"وقوله: {واللّه يضاعف لم يشاء} أي بحسب إخلاصه في عمله {واللّه واسع عليم} أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق سبحانه وبحمده. ">الآية رقم (262 : 264)">
الآية رقم (262 : 264)
{ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم . يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين }
يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مَنَّا على من أعطوه فلا يمنُّون به على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل.
وقوله تعالى: {ولا أذى} أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم اللّه تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال: {لهم أجرهم عند ربهم} أي ثوابهم على اللّه لا على أحد سواه، {ولا خوف عليهم} أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، {ولاهم يحزنون} أي على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها، لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى: {قول معروف} أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم، {ومغفرة} أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي، {خير من صدقة يتبعها أذى}، {واللّه غني} عن خلقه، {حليم} أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : (ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر) "رواه ابن مردويه وأخرجه أحمد وابن ماجة"ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}، فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة يخطيئة المن والأذى، ثم قال تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس}، أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن الأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه اللّه وإنما قصده مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة اللّه تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال: {ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر}.
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه، فقال: {فمثل كمثل صفوان} وهو الصخر الأملس {عليه تراب فأصابه وابل} وهو المطر الشديد، {فتركه صلداً} أي فترك الوابلُ ذلك الصفوانَ صلداً: أي أملس يابساً، أي لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند اللّه، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين}. ">الآية رقم (265)">
الآية رقم (265)
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير }
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات اللّه عنهم في ذلك {وتثبيتا من أنفسهم}، أي وهم متحققون ومتثبتون أن اللّه سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء. ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته: (من صام رمضان إيمانا واحتساباً) الحديث أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند اللّه وثوابه، قال الشعبي: {وتثبيتاً من أنفسهم} أي تصديقاً ويقيناً.
وقوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} أي كمثل بستان بربوة، وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس والضحاك: وتجري فيه الأنهار.
وقوله تعالى: {أصابها وابل} وهو المطر الشديد كما تقدم، فآتت {أكلها} أي ثمرتها، {ضعفين} أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان، {فإن لم يصبها وابل فطل} قال الضحاك: هو الرذاذ وهو اللين من المطر، أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأياً ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً بل يتقبله اللّه ويكثره وينميِّه، كل عامل بحسبه، ولهذا قال: {واللّه بما تعملون بصير} أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء. ">الآية رقم (266)">
الآية رقم (266)
{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فيمن ترون هذه الآية نزلت {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب}؟ قالوا: اللّه أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أولا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: ضربت مثلاُ بعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لرجل غني يعمل بسعة؟؟ اللّه، ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله. وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً، بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات، عياذاً باللّه من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال فلم يحصل منه شيء، وخانه أحوج ما كان إليه. ولهذا قال تعالى: {وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار} وهو الريح الشديد {فيه نار فاحترقت} أي أحرق ثمارها واباد أشجارها فأي حال يكون حاله؟.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ضرب اللّه مثلاُ حسناً - وكل أمثاله حسن - قال: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات}، يقول: صنعه في شيبته، {وأصابه الكبر} وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رُدَّ إلى اللّه عزّ وجلّ ليس له خير فسيعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني وانقضاء عمري)
، ولهذا قال تعالى: {كذلك يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون} أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها المراد منها، كما قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. ">الآية رقم (267 : 269)">
الآية رقم (267 : 269)
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد . الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم . يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، يعني التجارة بتيسيره إياها لهم، وقال علي والسدي: {من طيبات ما كسبتم} يعني الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض، قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن اللّه طيب لا يقبل إلا طيباً، ولهذا قال: {ولا تيمموا الخبيث} أي تقصدوا الخبيث، {منه تنفقون ولستم بآخذيه}: أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه، فاللّه أغنى منكم فلا تجعلوا للّه ما تكرهون، وقيل معناه: لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه. وعن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن اللّه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه اللّه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يُسْلم عبد حتى يسلم قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا: وما بوائقه يا نبي اللّه؟ قال: غشه وظلمه - ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن اللّه لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) "رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن مسعود مرفوعاً"قال ابن كثير: والصحيح القول الأول.
قال ابن جرير رحمه اللّه: عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه في قول اللّه: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} الآية، قال نزلت في الأنصار، كات الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز، فانزل اللّه فيمن فعل ذلك: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} "أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين"وقال ابن ابي حاتم: عن البراء رضي الله عنه {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: نزلت فينا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر، فياكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت: {ولا تَيَمَّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذ إلا على إغماض وحياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده "رواه ابن أبي حاتم والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب"
وعن عبد اللّه بن مغفل في هذه الآية {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} قال: كسب المسلم لا يكون خبيثاً، ولكن لا يصَّدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه"رواه ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن مغفل"، وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت: أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت: يا رسول اللّه نطعمه المساكين؟ قال: (لا تطعموهم مما لا تأكلون). وعن البراء {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول: لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه؟ "رواه ابن جرير عن البراء بن عازب"، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفَسه؟.
وقوله تعالى: {واعلموا أن اللّه غني حميد} أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير، كقوله: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه. وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن اللّه غني واسع العطاء كريم؛ جواد، وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة، من يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد: أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو ولا رب سواه
وقوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلاً واللّه واسع عليم}، قال ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن للشيطان لمة بابن آدم وللمَلك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه فليحمد اللّه، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان) ثم قرأ: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلاً} "رواه ابن ابي حاتم والترمذي والنسائي وابن حبان"الآية. ومعنى قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة اللّه، {ويأمركم بالفحشاء}: أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلّاق، قال تعالى: {والّه يعدكم مغفرة منه} أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء، {وفضلاً} أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر {واللّه واسع عليم}.
وقوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}، قال ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخة ومنسوخة ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخرة وحلاله وحرامه وأمثاله. وقال مجاهد: {الحكمة} ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن، وقال أبو العالية: الحكمة خشية اللّه، فإن خشية اللّه رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً: (رأس الحكمة مخافة اللّه)، وقال أبو مالك: الحكمة السنّة. وقال زيد بن أسلم: الحكمة العقل. قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين اللّه، وأمر يدخله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبيّن ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه عالماً بأمر دينه بصيراً به، يؤتيه اللّه إياه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين اللّه. وقال السُّدي: الحكمة النبوة. والصحيح أن الحكمة لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث: (من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه) "رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن عبد اللّه بن عمر"وقال صلى اللّه عليه وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه اللّه مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) "رواه البخاري ومسلم والنسائي"
وقوله تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب} أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل، يعي به الخطاب ومعنى الكلام. ">الآية رقم (270 : 271)">
الآية رقم (270 : 271)
{ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار . إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير }
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده. وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره، فقال: {وما للظالمين من أنصار} أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب اللّه ونقمته.
وقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي} أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة). والأصل: أن الإسرار أفضل لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشا في عبادة اللّه، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر اللّه خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف اللّه رب العالمين ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
وفي الحديث المروي: (صدقة السر تطفىء غضب الرب عزّ وجلّ)، وقال ابن أبي حاتم في قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} قال: أنزلت في أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ما خلَّفت وراءك لأهلك يا عمر؟( قال: خلَّفتُ لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟) فقال: عدة اللّه وعدة رسوله، فبكى عمر رضي اللّه عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر واللّه ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقاً ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة. لكن روى ابن جرير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: جعل اللّه صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً.
وقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سراً يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات، وقوله: {واللّه بما تعملون خبير} أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه. ">الآية رقم (272 : 274)">
الآية رقم (272 : 274)
{ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم . الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فرخص لهم فنزلت هذه الآية: {ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء} "رواه النسائي"الآية. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية {ليس عليك هداهم} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين "رواه ابن أبي حاتم"
وقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم}، كقوله: {من عمل صالحاً فلنفسه} ونظائرها في القرآن كثيرة وقوله: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه} قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه اللّه، وقال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه اللّه فلا عليك ما كان من عمله، وهذا معنى حسن، وحاصله: أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه اللّه فقد وقع أجره على اللّه، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: أَلِبر أو فاجرٍ، أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}، والحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(قال رحل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فاصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن الليلة فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قُبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته) "أخرجه الشيخان عن أبي هريرة"
وقوله تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه} يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى اللّه وإلى رسوله وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم، و {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} يعني سفراً للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الارض: هو السفر. قال اللّه تعالى: {وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}، وقال تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه} الآية.
وقوله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} أي الجاهل بأمرهم وحالهم، يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ليس المسكين بهذا الطّواف التي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً).
وقوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم}: أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى: {سيماهم في وجوههم}، وقال: {ولتعرفنَّهم في لحن القول}. وفي الحديث: (اتقو فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه)، ثم قرأ: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} "رواه أصحاب السنن".
وقوله تعالى{لا يسألون الناس إلحافاً} أي لا يلِّحون في المسألة، ويكلفون الناس مال لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف. اقرأوا إن شئتم: يعني قوله: {لا يسألون الناس إلحافا} "رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري"وقال الإمام أحمد عن رجل من مزينة، أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما يسأله الناس، فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب، وهو يقول: (ومن استعف أعفه اللّه، ومن استغنى أغناه اللّه، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سال الناس إلحافاً)، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسال. وعن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه). قالوا: يا رسول اللّه وما غناه؟ قال: (خمسون درهماً أو حسابها من الذهب) "رواه أحمد وأصحاب السنن"وقوله: {وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم} أي لا يخفى عليه شيء منه، وسيُجزى عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
وقوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهر، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً كما ثبت في الصحيحين، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع: (وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في فيّ امرأتك). وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة) "رواه أحمد والشيخان"وقال ابن جبير عن أبيه: كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهماً ليلاً ودرهما نهاراً، ودرهماً سراً ودرهماً علانية، فنزلت: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً علانية} "رواه ابن أبي وابن مردويه"وقوله: {فلهم أجرهم عند ربهم} أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات، {ولا خوف عليهم لا هم يحزنون} تقدم تفسيره. ">الآية رقم (275)">
الآية رقم (275)
{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصدقات لذو الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكله الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، وأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطن له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً. وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق، وحكي عن عبد اللّه بن عباس وعكرمة والحسن وقتادة أنهم قالوا في قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}، يعني لا يقومون يوم القيامة، وقال ابن جرير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب، وقرأ: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} وذلك حين يقوم من قبره. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيّات تجري من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا) "رواه ابن أبي حاتم وأحمد"وعن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجراً - وذكر في تفسيره - أنه آكل الربا"رواه البخاري"
وقوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل اللّه البيع وحرم الربا}، أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام اللّه في شرعه، وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع، لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه اللّه في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: {إنما البيع مثل الربا} أي هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا وقوله تعالى: {وأحل اللّه البيع وحرم الربا} يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالواه من الاعتراض مع علمهم بتفريق اللّه بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم يحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل. ولهذا قال: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى اللّه} أي من بلغه نهي اللّه عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة، لقوله: {عفا اللّه عما سلف} وكما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة: )وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا العباس(، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى اللّه} قال سعيد بن جبير والسُّدي: {فله ما سلف} ما كان أكل من الربا قبل التحريم، وقال ابن أبي حاتم عن أم يونس العالية بنت أبقع، أن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت لها أم بحنة أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن ارقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته عبداً إلى العطاء بثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت: بئس ما شَرَيْتِ، وبئس ما اشتريت أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قد بطل إن لم يتب. قالت، فقلت: أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف}، وهذا الأثر مشهور. وهو دليل لمن حرم مسألة العينة العينة: أن يبيعه شيئاً إلى أجل، ثم يشتريه منه نقداً بأقل مما باعه، وفي هذا شبهة التحايل على أكل الربا نسأله تعالى السلامة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام وللّه الحمد والمنة.
ثم قال تعالى: {ومن عاد} أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي اللّه عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة، ولهذا قال: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقد قال أبو داود، عن جابر قال: لما نزلت: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من اللّه ورسوله)، ,إنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض،و المزابنة وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض و المحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبلة في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب اللّه لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم}
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ثلاث وددت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيه شائبة الربا، والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان ابن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات. فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). وفي السنن عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى مالا يربك)، وفي الحديث الآخر: (الإثم ما حاك في القلب، وترددت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس). وفي رواية: (استفت قلبَك وإن أفتاك الناس وأفتوك). وقال ابن عباس: آخر ما نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية الربا وعن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: إني لعلِّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم باشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم "رواه ابن ماجة وابن مردويه"وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً). وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (الربا سبعون جزءاً أيسرها أن ينحك الرجل أمه) "رواه ابن ماجة والحاكم عن ابن مسعود وزاد الحاكم: وإنّ أربى الربا عرض الرجل المسلم"وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا). قال، قيل له: الناس كلهم؟ قال: (من لم يأكله منهم ناله من غباره).
ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي روي عن عائشة، قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه: (لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها أجملوه وجملوه أي أذابوه فباعوها وأكلوا أثمانها) وقوله صلى اللّه عليه وسلم : لعن اللّه آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)، قالوا: وما يُشْهد عليه ويُكْتب، إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسداً، فالاعتبار بمعناه لا بصورته، لأن الأعمال بالنيات. وفي الصحيح: (إن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقد صنف الإمام العلّامة أبو العباس ابن تيمية كتاباً في إبطال التحليل، تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى، فرحمه اللّه ورضي عنه. ">الآية رقم (276 : 277)">
الآية رقم (276 : 277)
{ يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} وقال تعالى: {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم}، وقال: {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند اللّه} الآية. وقال ابن جرير: في قوله: {يمحق اللّه الربا} وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلّ وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل)، وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال صلى اللّه عليه وسلم : (من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالإفلاس والجذام).
وقوله تعالى: {ويربي الصدقات} قرىء بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو أي كثّره ونمّاه، وقرىء يُربي بالضم والتشديد من التربية. قال البخاري عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل اللّه إلا الطيب، فإن اللّه يتقبلها بيمنيه ثم يربيّها لصاحبها كما يربّي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل) "رواه البخاري في كتاب الزكاة وأخرجه مسلم بنحوه"وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن اللّه عزّ وجلّ يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد) وتصديق ذلك في كتاب اللّه: {يمحق اللّه الربا ويربي الصدقات} "رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح"
عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن العبد إذا تصدق من طيّب يقبلها اللّه منه، فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربوا في يد اللّه، أو قال: في كف اللّه، حتى تكون مثل أحد فتصدقوا)
"رواه أحمد قال ابن كثير صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب"وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد)"رواه أحمد وقد تفرد به من هذا الوجه"وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب، ولا يقبل اللّه إلا الطيب، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه) "رواه البزار عن أبي هريرة مرفوعاً".
وقوله تعالى: {واللّه لا يحب كل كفار أثيم} أي لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم اللّه له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل. ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبراً عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القياة من التبعات آمنون، فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. ">الآية رقم (278 : 281)">
الآية رقم (278 : 281)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون، {وذروا ما بقي من الربا} أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار، {إن كنتم مؤمنين} أي بما شرع اللّه لكم من تحليل البيع وتحرم الربا وغير ذلك. وقد ذكروا أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عميرمن ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليه: {يا أيها الذن آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين* فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله} فقالوا: نتوب إلى اللّه، ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم "ذكره ابن جريج ومقاتل والسدي"وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن عباس: {فأذنوا بحرب} أي استيقنوا بحرب من اللّه ورسوله، وتقدم عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرا: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله} "أخرجه ابن جرير عن ابن عباس"وقال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله} فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه كان حقاً على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وقال قتادى: أو عدهم اللّه بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجاً أي دماؤهم مهدورة أين ما ما أتو، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا، فإن اللّه قد أوسع الحلال وأطابه، فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة "رواه ابن أبي حاتم"
ثم قال تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلمون} أي بأخذ الزيادة {ولا تُظْلمون} أي بوضع رؤوس الأموال أيضاً بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه، خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (الا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله) "رواه ابن ابي حاتم"
وقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}، يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وقاء، فقال: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينة إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين. وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك.
فالحديث الأول عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من سرّه أن يظله اللّه يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه) "رواه الطبراني"
حديث آخر : عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه تقاضاه فيختبىء منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فساله عنه، فقال: نعم هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه فقال: يا فلان اخرج فقد أخبرت أنك ها هنا، فخرج إليه فقال: ما يُغَيبك عني؟ فقال: إني معسر وليس عندي، قال: آللّه إنك معسر؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة) "رواه أحمد والإمام مسلم"
حديث آخر: عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أتى اللّه بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها - قالها ثلاث مرات - قال العبد عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنتُ رجلاً أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال، فيقول اللّه عزّ وجلّ: أنا أحق من ييسر، أدخل الجنة) "أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة"ولفظ البخاري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل اللّه يتجاوز عنا، فتجاوز اللّه عنه)
حديث آخر عن عبد اللّه بن سهل بن حنيف أن سهلاً حدّثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (من أعان مجاهداً في سبيل اللّه أو غازياً أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله) "رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد"
حديث آخر: أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه غلام له، معه ضَمامة مجموعة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ثوب ينسب إلى حي في همدان وعلى غالمه بردة ومعافري، فقال له أبي: يا عم، إني أرى في وجهك سَعْفة طبيعة من غضب من غضب، قال: أجل كان لي على فلان بن فلان الرامي مال، فأتيت أهله فسلمت فقلت أثَمَّ هو؟ قالوا: لا فخرج علي ابن له جَفْر كرش واسع فقلت: أين ابوك؟ فقال: سمع صوتك فدخل أريكة سرير فاخر أمي، فقلت: أخرج إليَّ فقد علمت أين أنت، فخرج فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا واللّه أحدثك ثم لا أكذبك، خشيت واللّه أن أحدثثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكنت واللّه معسراً قال، قلت: آللّه. قال: آلله؟ ثم قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني، وإلا فأنت في حل، فأشهدُ: أبصَر عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمعَ أذناي هاتان ووعاه قلبي - وأشار إلى نياط قلبه - رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله اللّه في ظله).
حديث آخر عن ابن عباس قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا - واومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض - : (من أنظر معسراً أو وضع عنه وقاه اللّه من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْن ما غلظ من الأرض بربوة ثلاثاً ألا إن عمل النار سهل بسهوة أرض لينة ملائمة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى اللّه من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد للّه إلا ملأ اللّه جوفه إيماناً) "تفرد به أحمد"
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم وزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته فقال: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم، فقال سعيد بن جبير: آخر ما نزل من القرآن كله: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}، وعاش النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وعن عبد اللّه بن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وقال ابن جريج، قال ابن عباس: آخر آية نزلت: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه} الآية قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى اللّه عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال وبدىء يوم السبت ومات يوم الإثنين. ">الآية رقم (282)">
الآية رقم (282)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم }
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه: أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين.
فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينم بدين آجل مسمى فاكتبوه}، هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبّه على هذا في آخر الآية حيث قال: {ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا}، وقال مجاهد عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}. قال: أنزلت في السلم إلى اجل معلوم، وقال قتادة عن ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن اللّه أحله وأذن فيه، ثم قرأ: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} رواه البخاري. وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، وقوله: {فاكتبوه} أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ، فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين عن عبد اللّه بن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب أن الدِّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلاً، لأن كتاب اللّه قد سهل اللّه ويسر حفظه على الناس، والسنن أيضاً محفوظة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والذي أمر اللّه بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، كما ذهب إليه بعضهم. قال ابن جريج: من أدّان فليكتب ومن ابتاع فليُشْهد، وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلاً صحب كعباً فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع بيعاً إلى أجل فلم يُشْهد ولم يكتب، فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه، وقال الحسن وابن جريج: كان ذلك واجباً ثم نسخ بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته}. والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد.
قال الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنه ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل سال بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: أئتن بشهداء أشهدهم؟ قال: كفى باللّه شهيداً. قال: ائتني بكفيل، قال: كفى باللّه كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجَّج أصلح موضع ما نقره موضعها ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلاناً ألف دينار فسالني كفيلاً فقلت: كفى باللّه كفيلاً فرضي بذلك، وسالني شهيداً فقلت: كفى باللّه شهيداً فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً وإني أستودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف، وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً تجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بالف دينار وقال: واللّه ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتت فيه. قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال: فإن اللّه قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بألفك راشداً "قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقاً بصيغة الجزم"
وقوله تعالى: {فليكتب بينكم كاتب بالعدل} أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. وقوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب أن يكتب كما علمه اللّه فليكتب} أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علَّمه اللّه ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة، وليكتب كما جاء في الحديث: (إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق)،وفي الحديث الآخر:(من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، وقال مجاهد وعطاء: واجب على الكاتب أن يكتب، وقوله: {وليملل الذي عليه الحق وليتق اللّه ربه}، أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق اللّه في ذلك، {ولا يبخس منه شيئا} أي لا يكتم منه شيئاً، {فإن كان الذي عليه الحق سفيها} محجوراً عليه بتبذيره ونحوه {أو ضعيفاً} أي صغيراً أو مجنوناً {أو لا يستطيع ان يمل هو} إما لعيّ أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه {فليملل وليه بالعدل}.
وقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} أم بالاستشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة، {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول اللّه أكثر أهل النار؟ قال: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن). قالت: يا رسول اللّه ما نقصان العقل والدين؟ قال: (أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين).
وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود، وهذا مقيَّد حكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط، وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدلالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً. وقوله: {أن تضل إحداهما} يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة {فتذكر إحداهما الأخرى} أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد.
وقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}، قيل: معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة والربيع، وهذا كقوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه اللّه فليكتب}، ومن ههنا استفيد أن تحمُّل الشهادة فرض كفاية، قيل: هو مذهب الجمهور والمراد بقوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} للأداء لحقيقة قوله: {الشهداء} والشاهد حقيقة فيمن تحمل فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت، وإلا فهو فرض كفاية واللّه أعلم، وقال مجاهد: إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي ياتي بشهادته قبل أن يُسْألها)، فأما الحديث الآخر في الصحيحين: (الا أخبركم بشر الشهداء؟ الذين يشهدون قبل أن يُستشهَدوا)، وكذا قوله: (ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم) وفي رواية: (ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون) فهؤلاء شهود الزور.
وقوله تعالى: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلىأجله} هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً، فقال: {ولا تسأموا} أي لا تملوا أن تكبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله. وقوله: {ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً، هو {أقسط عند اللّه} أي أعدل، {,أقوم للشهادة} أي أثبت للشاهد إذا ووضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن نساه كما هو الواقع غالباً، {وأدنى أن لا ترتابوا} وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة.
وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونا بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها} أي إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} يعني أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل، فأشهدوا على حقكم على كل حال، وقال الشعبي والحسن: هذا الأمر منسوخ بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته}، وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى اللّه عليه وسلم ليقضيه ثم فرسه، فأسرع النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنادى الأعربي النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي قال: أوليس قد ابتعته منه؟ قال الأعرابي: لا واللّه ما بعتك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (بل قد ابتعته منك)، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى اللّه عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقاً، حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى اللّه عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم على خزيمة فقال (بم تشهد)؟ فقال: بتصديقك يا رسول اللّه، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين "رواه الإمام أحم"ولكن الإحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ ابن مردويه والحاكم في مستدركه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ثلاثة يدعون اللّه فلا يستجاب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ، ورجل أقرض رجلاً مالاً فلم يُشهد) "قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
وقوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} قيل: معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد فيكتب هذا خلاف ما يُمْلَى، ويشهد هذا بخلاف ما سمع، أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة، وقيل: معناه لا يُضِر بهما.
وقوله تعالى: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} أي إن خالفتم ما أمرتم به، أو فعلتم ما نهيتم عنه فإنه فسق كائن بكم، أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه، وقوله: {واتقوا اللّه} أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره، {ويعلمكم اللّه} كقوله {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا اللّه يجعل لكم فرقانا} وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به}، وقوله: {واللّه بكل شيء عليم} أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات. ">الآية رقم (283)">
الآية رقم (283)
{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم }
يقول تعالى: {إن كنتم على سفر} أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى، {ولم تجدوا كاتبا} يكتب لكم، قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً {فرهان مقبوضة} أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق وقد استدل بقوله: {فرهان مقبوضة}، على أنالرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضاً في يد المرتهن وهو رواية عن الإمام أحمد، وذهب إليه طائفة، واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعاً إلا في السفر، قاله مجاهد وغيره. وقد ثبت في الصحيحين عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله.
وقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاَ فليؤد الذي ائتمن أمانته} روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها، وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا، وقوله: {وليتقي اللّه ربه} يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).
وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} أي لا تخفوها وتغلُّوها ولا تظهر
وها. قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك، ولهذا قال: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} قال السُّدي: يعن فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى: {ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذاً لمن الآثمين}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهولى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} وهكذا قال ههنا: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه واللّه بما تعملون عليم}.